في تطور لافت يجمع بين علوم الأحياء والهندسة، نجح فريق من الباحثين المصريين والإسبان في تطوير تقنية رائدة تسمح بـ"طباعة" هياكل ثلاثية الأبعاد معقدة من السليلوز البكتيري، وهي مادة طبيعية تتميز بتوافقها الحيوي العالي وقوتها الميكانيكية، مما يفتح آفاقاً جديدة في مجال الطب التجديدي وإنتاج الأعضاء الاصطناعية، بحسب ورقة بحثية نشرت، أخيراً، في المجلة العلمية Carbohydrate Polymers.
ويتزايد اهتمام الباحثين بالسليلوز البكتيري، وهو مادة طبيعية صديقة للبيئة تصنعها بعض أنواع البكتيريا. يتميز هذا النوع من السليلوز بأنه نقي، مما يوفر الوقت والجهد والمال الذي يبذل عادة في تنقية السليلوز النباتي.
بفضل خواصه الاستثنائية، يجد السليلوز البكتيري تطبيقات واسعة في مجالات متعددة، بدءً من الإلكترونيات والبطاريات وصولاً إلى الطب وصناعة الأدوية، ومع ذلك، ظل تشكيل هذا السليلوز في هياكل ثلاثية الأبعاد يمثل تحدياً كبيراً. إحدى المحاولات السابقة لحل هذه المشكلة كانت باستخدام طابعات ثلاثية الأبعاد، ولكن هذه الطريقة أدت إلى فقدان بعض الخواص المهمة للسيليلوز البكتيري، مثل قوته ومتانته.
بالإضافة إلى ذلك، تم تطوير طريقة أخرى تعتمد على طابعات متطورة، وقد نجحت هذه الطريقة في تشكيل السليلوز البكتيري على شكل وملامح وجه دمية. ومع ذلك، كانت هذه الطريقة مكلفة ومعقدة، مما أعاق ترسيخ هذه التقنية في مجال الطباعة ثلاثية الأبعاد، في المقابل تفتح الدراسة الجديدة آفاقاً مختلفة وأكثر رحابة في هذا المجال الواعد.
الباحثون من مصر وإسبانيا (من اليمين إلى اليسار): ضياء أبو الفتوح، وعلا الحجر، وآنا رويج
محاكاة أعضاء بشرية
على عكس التقنيات السابقة، نجح الباحثون من مصر وإسبانيا في طباعة السليلوز البكتيري في شكل ثلاثي الأبعاد بتقنية بسيطة غير مكلفة. يقول الباحث الرئيسي في الدراسة، الدكتور ضياء أبو الفتوح، الباحث بمدينة الأبحاث العلمية بالإسكندرية: "استهدفت دراستنا تصميم آلية عملية لتطويع الخلايا البكتيرية لإنتاج السليلوز البكتيري في حيز ثلاثي الأبعاد، وذلك باستخدام تجهيزات معملية غير مكلفة وخطوات بسيطة غير معقدة".
ويضيف لـ"النهار العربي": "كما استهدفنا أيضاً أن تكون الخواص الفيزيائية للمنتج مماثلة أو قريبة من المنتج السليلوزي المنتج في الظروف العادية. المستفيد الأول من هذه الآلية سيكون مجال الأجهزة التعويضية وجراحات التجميل البشري وضحايا الحروق، حيث إن إنتاج مصنوعات سليلوزية تحاكي الأعضاء المتضررة أو المفقودة كان هو الهدف النهائي".
جرى تنفيذ المرحلة الأولى من الدراسة في معامل مدينة الأبحاث العلمية ببرج العرب في الإسكندرية، وفي الهيئة العامة للطاقة الذرية بإنشاص، بينما نفذت المرحلة الثانية في معهد برشلونة لعلوم المواد بإسبانيا.
يقول أبو الفتوح: "لقد نجحنا في محاكاة "أذن" دمية، ثم في خطوة لاحقة، تمكنا من مضاهاة ملامح وجه دمية بنسبة تطابق شبه كاملة، مع الحفاظ على التركيب الفريد والخواص الميكانيكية المميزة للسيليلوز البكتيري".
أظهرت الخواص المختبرة للوجه السليلوزي المنتج أداءً وقواماً يقارب الكولاجين البشري، مما يجعل التقنية الجديدة ناجحة في تخليق منتجات تعويضية في المجال الطبي. علاوة على ذلك، قد يكون إنتاج أشكال ثلاثية الأبعاد من السليلوز البكتيري عبر هذه التقنية مصدر إلهام لمجالات تطبيقية أخرى.
ويرى الباحث المصري أن إمكانية توسيع نطاق هذه الطريقة لإنتاج هياكل أكبر أو أكثر تعقيداً باتت واعدة للغاية، إذ أن الأساس العلمي أصبح واضحاً، والتكلفة معقولة مقارنة بالطرق الأخرى، والإجراءات أكثر بساطة، وهذا يفتح الباب أمام تطوير تصميمات متنوعة لإنشاء مستنسخات سليلوزية تلبي احتياجات مختلفة.
يضيف أبو الفتوح: "المراحل المقبلة من البحث تتضمن استكشاف إمكانيات هذه الطريقة في إنتاج مستنسخات بأحجام وقوام مختلف، إلى جانب دراسة إمكانية إضافة مواد أخرى أثناء عملية الإنتاج".
ويؤكد الباحث على توقع مواجهة تحديات في تلبية الطلب المتزايد على المستنسخات السليلوزية وتكييفها مع مختلف التطبيقات، سواء في المجال الطبي أو خارجه.
مضاهاة ملامح وجه دمية بنسبة تطابق شبه كاملة
تطبيقات طبية واعدة
وحول استخدامات هذه التقنية في أجهزة تعويضية أو حتى في عمليات الزرع الدائمة في الجسم الحي، تشير الدكتورة علا الحجر، الباحثة المشاركة في الدراسة إلى أنه "بشكل عام، السليلوز البكتيري لا يتحلل تلقائياً داخل الجسم الحي. لذا، فهو مثالي للاستخدام في عمليات الزرع الدائمة، مثل تلك المستخدمة لعلاج الحروق".
وتقول لـ"النهار العربي": "وتتابع لـ "النهار العربي": "وعلى الرغم من مقاومة السليلوز للتحلل الحيوي، إلا أنه يمكن معالجته مسبقاً لجعله قابلاً للتحلل عند الحاجة، مما يجعله مادة مثالية للاستخدام كدعامة في هندسة الأنسجة المتجددة. عند التحلل، يتحول السليلوز البكتيري إلى جلوكوز، وهو مصدر طاقة أساسي للخلايا، مما يعزز فائدته في عملية تجديد الأنسجة".
وتؤكد الحجر أن "السليلوز البكتيري آمن تماماً ولا يثير أي استجابة مناعية في الجسم الحي. نجحت هذه الدراسة في إنتاج هياكل ثلاثية الأبعاد من السليلوز البكتيري بمساعدة بوليمر آخر لا يترك أي أثر في المنتج النهائي، مما يضمن توافقه التام مع الأنسجة الحية والجهاز المناعي".
من جهتها، تقول آنا رويج من معهد علوم المواد في برشلونة، والباحثة المشاركة في الدراسة إن "الطب التجديدي مجال واسع يشمل استخدام الأطراف الاصطناعية الدائمة أو المؤقتة. ويهدف أحد فروعه إلى استبدال الأنسجة الرخوة التي قد تشمل العضلات أو الأوتار أو الأربطة أو الأوعية الليمفاوية أو الدموية".
وتضيف رويج لـ"النهار العربي": "يمكن استخدام السليلوز البكتيري، بتشكيلاته الخاصة، كبديل لبعض هذه الأنسجة التالفة، حيث أثبتت الدراسات إمكانية زرعه بأمان داخل الجسم".
وحول الشراكة المصرية الإسبانية، تقول الباحثة إن "التعاون في البحث العلمي حجر الأساس لتقدم العلم وازدهاره. في هذه الدراسة تحديداً، استفدنا من تكامل التخصصات بين المجموعتين البحثيتين. فبينما تميز الفريق المصري بخبرته الواسعة في مجال الأحياء الدقيقة، أضاف الفريق الإسباني معرفته العميقة في علوم المواد، مما أسهم في إثراء البحث وإنجاحه".