لم تكن مباراة الترجي التونسي ضد الأهلي المصري السبت الماضي 18 أيار (مايو) في ملعب رادس مباراة كرة قدم عادية.
فمع أهميتها كروياً باعتبارها ذهاب نهائي بطولة إفريقيا للأندية، شغلت المواجهة الرأي العام في تونس وخارجها بسبب "دخلة" خرجت عن المنتظر والمألوف، وأعادت الاهتمام بـ"الألتراس" أو مجموعات المشجعين لكرة القدم وقصصهم وعلاقتهم بالسياسة والشأن العام في بلدهم قبل حوادث 2011 وبعدها.
"صُنع في غزة"
وفاجأ جمهور الترجي الرياضي الجميع بمبادرة "من نوع خاص" سلطت الضوء عالمياً على ما يحدث في غزة على طريقة مشجعي كرة القدم.
"صُنع في غزة"، عنوان "دخلة" مجموعات "ألتراس" الترجي التي لقيت صدى كبيراً، ووصل صيتها إلى كولومبيا حيث تفاعل الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو مع وجود صورته في العرض الافتتاحي لجمهور الترجي، وأعاد نشرها عبر حسابه الرسمي في موقع "إكس".
واختارت المجموعة التي أعدت "التيفو" كما يسمى في دول كثيرة، كشفه على مراحل، الأولى برفع الستار عن مجموعة من صور الحرب في غزة التي أحدثت ساعة نشرها ضجة كبيرة مثل صورة الجد الذي كان يحمل حفيدته ريم التي قضت في القصف الإسرائيلي ويبكي قائلاً "إنها روح الروح"، وصور أخرى لأسماء ناصرت غزة مع جملة كتبت بالبند العريض "كن على الجانب الصحيح".
ويلتقي الترجي والأهلي مجدداً اليوم السبت في إياب نهائي دوري أبطال أفريقيا، على ملعب القاهرة الدولي، من أجل تحديد هوية بطل المسابقة، في مباراة يتوقع أن تكون حافلة بالإثارة.
من يقف وراء "الدخلة"؟
"الألتراس" في الأصل هي كلمة لاتينية وتعني المتطرفين، وفي كرة القدم هم مجموعات من المشجعين المتطرفين في حب فرقهم، تحكمهم قوانين صارمة ولهم قيادات يشرفون على تنظيم المدارج والشعارات التي سترفع في المباريات والأهازيج التي ستطلق.
ويسهر "الألتراس" على تحضير "التيفو"، وهو كلمة إيطالية تعني عرض الافتتاح، من خلال رسم لوحات كبيرة تحمل رسائل وإشارات إما للفريق الخصم، أو للسلطة، أو لأي جهة أخرى تختارها المجموعة المشرفة على "التيفو" والذي صار يسمى في تونس "الدخلة".
وتتنافس مجموعات مشجعي الفرق الكروية في تونس، وخصوصاً الكبرى مثل الترجي الرياضي والنادي الإفريقي والنجم الساحلي، في ما بينها لتحضير "دخلة" تكون الأجمل والأكثر وقعاً وتعبيراً عن القضايا السياسية والاجتماعية سواء في تونس أو خارجها، وفي الفترة الأخيرة صارت القضية الفلسطينية خصوصاً مع حرب غزة الموضوع الرئيسي الذي يتنافس الجمهور لإبداع "دخلات" خاصة به.
ومن أشهر مجموعات "الألتراس" في تونس تلك التابعة لنوادي الإفريقي والترجي والنجم الساحلي والصفاقسي، ويتنقل هؤلاء مع فرقهم في كل مبارياتهم داخل تونس وحتى خارجها.
وداخل كل فريق يقسّم "الألتراس" مجموعات، ويحدث أن تحصل بينها خصومات ما ينعكس على الأجواء داخل الملاعب.
مسيسون بلا أحزاب
و"الألتراس" في تونس كان من بين العوامل التي ساهمت في حوادث 2011 بسبب تعرض المشجعين للعنف من الأمن في مناسبات عديدة، ما ولد حالة من الاحتقان حولت الملاعب في وقت لاحق إلى مسرح للمواجهة بين الشباب الغاضب والسلطة.
وینتمي عادة شباب "الألتراس" إلى الأحياء الشعبیة، وهم غائبون ومغيبون عن الحیاة العامة في تونس. وتعتبر المدارج بالنسبة لهم فضاء للتعبیر عن آرائهم من خلال إخراج مباريات كرة القدم عن سیاقها النمطي، ليصير الملعب مسرحاً للاحتجاج على واقعهم عبر الأهازيج والأغاني المنددة بسیاسات الدولة والحكام.
"ألتراس" النادي الأفريقي التونسي.
ويقول بلال، وهو واحد من شباب "ألتراس" الترجي إنه يشعر عندما يكون رفقة أصحابه في الملعب بأنه "إنسان حر يفعل ما يريد ويقول ما يريد"، ويضيف: "عندما نصرخ ونغني نشعر بأننا قادرون على التعبير عن غضبنا وحزننا".
وبلال من سكان حي محمد علي بضاحية قرطاج، وهو واحد من الأحياء الشعبية الفقيرة التي لا تبعد إلا بضعة أمتار عن مقر الرئاسة.
ويقول بلال لـ"النهار العربي" إنه لا يفوّت أي مباراة لفريقه المفضل، ورغم أنه ليس من المجموعة الضيقة التي تشرف على تحضير "الدخلة"، فإنه يؤكد أنها دائماً ما تكون حديث الجميع قبل أيام المباريات الكبرى مثل "ديربي" العاصمة ضد النادي الإفريقي، ويتابع: "كلما كانت مهيبة شعرنا بالفخر لانتمائنا لفريق الترجي".
وعي وهوية
في السياق، تقول أستاذة الجامعة في علم الاجتماع صابرين الجلاصي لـ"النهار العربي" إن الانتماء إلى مجموعة "الألتراس" هو "شكل من أشكال المصعد الاجتماعي الذّي یُكسب صاحبه هويةً فيصبح عضواً معترفاً به ويلقى التقدير والاحترام، وإن كان ذلك داخل مجموعة ضيقة".
وتضيف أن هذه المجموعات "تمنح صاحبها شرعیة وقوة للاحتجاج ضد كل أشكال السلطة دون الالتزام بأي قوانين أو قيود، ما يجعل البعض ينظر إليها على أنها تهديد للأمن".
وعادة ما توصم هذه المجموعات بالفوضى والعنف والانحلال من كل القيم المجتمعية والدينية وعدم الوعي بالقضايا السياسية والإنسانية، وفق المتخصصة التونسية التي تقول إن هذا الشباب الذي كان يُسمى سابقاً "الكلوشارات" (كلمة بالعامية التونسية تعني المنحرفين) "وظف حبه لكرة القدم ليثبت أنه واع بالقضايا الاجتماعية والسياسية وخصوصاً الإنسانية مثل قضية فلسطين، وهو ما حدث مع فريق الترجي".
وتضيف أن "دخلة الترجي" الأخيرة برهنت على أن الفكرة التي تكونت لدى المجتمع عن هذه المجموعات هي فكرة خاطئة، وتنم عن عدم قدرة على فهم التغييرات التي يعيشها هذا الجيل الجديد: "هم ليسوا شباباً يعيش على هامش هموم شعبه ولا تعنيه الا المسائل التافهة، بل هم شباب له تصوره ووعيه الخاص بواقعه وبالقضايا الإنسانية بشكل عام".
وتؤكد أن هذا الشباب برهن على أن الهوية الكروية يمكن أيضاً توظيفها لحمل لواء الهوية الإنسانية ككل.