هاني سكر
تنفق الدول أرقاماً كبيرة لبناء منشآت قادرة على استيعاب الأحداث الرياضية الضخمة بما فيها الألعاب الأولمبية التي تتطلّب حالة من الاستنفار على مستوى التجهيزات الرياضية من جهة، واللوجستية من جهة أخرى، لاستقبال آلاف الرياضيين وملايين الراغبين بمشاهدة الألعاب، ولهذا تتردّد دول كثيرة بتقديم ملفات استضافة للألعاب، بخاصة أن تقارير كثيرة تؤكّد أن استضافة الأولمبياد قد تتجاوز تكاليفها حدّ أرباحها، أو تحصل على هامش ربح بسيط. فما هو مصير هذه المنشآت التي تدفع الدول كل هذه الأموال لبنائها من أجل العرس العالمي؟
في تقرير نشرته اللجنة الأولمبية الدولية عام 2022، قالت إن 92% من المنشآت التي استُخدمت في القرن الـ21، و85% من المنشآت التي تمّ استخدامها منذ بدء الألعاب الأولمبية وحتى ذلك الحين ما زالت قيد الاستخدام، وباتت تشكّل مراكز رياضية كبيرة وواسعة تخدم دولها. ويقول التقرير إن الـ15% الأخرى التي لم تعد تحت الاستخدام تتوزع بين منشآت انتهى عمرها، او دُمّرت بسبب الحروب، أو منشآت خضعت لمشاريع تطويرية، وأن 4% فقط من المنشآت الأولمبية تمّ إغلاقها أو باتت غير فعّالة.
الفارق بين الأولمبياد وباقي البطولات أنها تحتاج لأنواع مختلفة من المنشآت، ففي كأس العالم أو أمم أوروبا لكرة القدم مثلاً لا تحتاج للتفكير بأكثر من ملاعب للكرة، وذات الشيء في أي رياضة أخرى. لكن ميزة الأولمبياد ترتبط بتنوع المنافسات، بالتالي تنوع المنشآت ما بين أحواض السباحة ومسارات الدراجات، عدا عن التفكير بلوازم دورات الألعاب الشتوية من مسارات الجليد وملاعب هوكي الجليد. والملفت أن 87% من هذه المنشآت التي بُنيت على مرّ تاريخ الألعاب الأولمبية ما زالت قيد الاستخدام، وهي نسبة مقاربة لنسبة المنشآت التي ما زالت قيد الاستخدام بعد بنائها خصيصاً للمساهمة باستضافة الألعاب الأولمبية "87% من إجمالي المنشآت الجديدة".
في الواقع، تعتبر دول كثيرة أن استضافة الأولمبياد هي خطوة للبدء بنهضة على مستوى المنشآت، لتنتقل تدريجياً وتصبح نهضة رياضية شاملة في البلاد، حيث يعتبر كثيرون أن استضافة إسبانيا لأولمبياد برشلونة عام 1992 كانت نقطة البداية لعهد من الازدهار الرياضي الإسباني الذي نراه في رياضات كثيرة، والأرقام تقول إن الإسبان حافظوا على 94% من المنشآت التي تمّ استخدامها في الدورة، كما تمّت المحافظة على 93% من المنشآت التي استُخدمت في ريو 2016. وبحسب اللجنة الأولمبية، فإن الكثير من المنشآت والمراكز تتحول لمراكز للنخبة لتأهيل البراعم والمواهب الشابة، عدا عن زيادة فرص الدول باستضافة أحداث أخرى، ما يعزز من استدامة المنشآت الأولمبية ويمنح بناءها المزيد من الفائدة.
لكن يبقى السؤال، هل يقتصر استثمار هذه المنشآت لاحقاً على الرياضة فقط؟
الجواب هو لا، بخاصة في ما يتعلق بالقرى الأولمبية المخصّصة لاستقبال آلاف الرياضيين وتأمين مكان للراحة والتدريب لهم خلال مشاركتهم في البطولات.
ففي تقرير لها، أشارت مجلة "فوربز"، أن القرية الأولمبية التي استضافت أولمبياد لندن تحولت إلى 3 آلاف منزل جديد، إضافة لمطاعم ومتاجر ومدارس، وباتت تكلفة المنزل الواحد "من غرفتي نوم" تزيد عن مليون دولار.
كما تمّ تحويل القرية الأولمبية التي استضافت ألعاب ريو 2016 بتكلفة 700 مليون دولار، إلى شقق فاخرة، أما القرية الأولمبية التي استضافت ألعاب ميونيخ 1972 فهي تمثل حالياً ثاني أكبر مشروع سكني للطلاب الجامعيين في ميونيخ، إضافة للشقق النموذجية.
أما مساكن الرياضيين في أولمبياد سوتشي الشتوي 2014 في روسيا، فقد تحول إلى منتجعات كبيرة بالقرب من البحر أو عند قاعدة جبال التزلج، علماً أن هذا الأولمبياد يعدّ أحد أغلى الألعاب الأولمبية عبر التاريخ بتكلفة 50 مليار دولار. والملعب الرئيسي الذي استضاف الأولمبياد تمّ تحويله لاحقاً لملعب كرة قدم، واستضاف منافسات كأس العالم 2018، قبل أن يصبح الملعب الرئيسي لفريق سوتشي، حاله حال ويستهام الذي استفاد من ملعب ويمبلي الذي استضاف أولمبياد 2012.
في حين تمّ تحويل حلبة التزلج الخاصة بأولمبياد فانكوفر الشتوي 2010 إلى مركز للرياضات المجتمعية، في الوقت الذي تحول فيه مقر الرياضيين بأولمبياد تورينو الشتوي 2006 في إيطاليا إلى مقر للاجئين، بعد انتهاء برنامج الهجرة الإيطالي.
بالتالي، يمكن القول إن معظم القرى الأولمبية تحولت لمراكز سكنية أو طلابية، مع استمرار المنشآت الرياضية واستثمارها. والجانب الاستثماري فيها لا يبدأ التفكير به بعد انتهاء الألعاب، فالاستدامة تمثل واحدة من أهم الركائز التي يتمّ التخطيط لها ومناقشتها بشكل فعلي عند تقديم ملف الاستضافة.
لكن سوء التخطيط من جهة وضعف المتابعة من جهة أخرى، تسببا بخسارة العديد من المنشآت بعد انتهاء الأولمبياد من دون الاستفادة منها بشكل فعلي، منها ملعب الكرة الطائرة الشاطئية في ريو 2016، والذي تحول إلى أرض مهجورة محاطة بمدرجات خاوية، كما تمّ إهمال أجزاء كبيرة من القرية الأولمبية التي استضافت ألعاب أثينا 2004، لتتحول لمناطق خالية من الحياة.
لذا، يمكن القول إن النجاح الأولمبي لا ينتهي بانتهاء الأولمبياد فقط، بل يرتبط بمدى قدرة الدول على استثمار ما أنفقته من مبالغ زهيدة لبناء كل هذه المنشآت، ومن لا يملك القدرة على التخطيط يكون الخاسر الأكبر، وينظر للجدوى الاقتصادية من استضافة الأولمبياد من عين أن التكاليف تقارب أو تضاهي غالباً الأرباح التي تجنيها خلال فترة الألعاب، ولا يفكر بما هو أبعد من ذلك.