النهار

العنصرية والأولمبياد من "القفص البشري" وغضب هتلر لجمهور باريس 2024
المصدر: النهار العربي
لا يكتفي الأولمبياد بجمع رياضات مختلفة في منافسة مفتوحة بين الدول على التتويج بالذهب العالمي، بل لطالما كان أرضاً لظهور قضايا سياسية وإنسانية مختلفة.
العنصرية والأولمبياد من "القفص البشري" وغضب هتلر لجمهور باريس 2024
سميث وكارلوس يقومان بإشارة القبضة السوداء خلال تتويج في أولمبياد 1968
A+   A-
هاني سكر

لا يكتفي الأولمبياد بجمع رياضات مختلفة في منافسة مفتوحة بين الدول على التتويج بالذهب العالمي، بل لطالما كان أرضاً لظهور قضايا سياسية وإنسانية مختلفة. وللأسف، لم تكن القيم الرياضية هي العامل المسيطر دائماً، بل كان الأولمبياد مرتعاً لأحداث عنصرية عديدة، ولو أن الرياضة كانت هي الرابح في النهاية، ويمكن القول ربما أنه في وسط كل التصرفات العنصرية، كان الأولمبياد المكان الذي يمكن القول به إن ما تخرّبه السياسة تصلحه الرياضة.

بدأت الألعاب الأولمبية عام 1896، وبعد 8 سنوات فقط من انطلاقتها واجهت مطباً عنصرياً قوياً، حين تمّ منح استضافة الدورة الثالثة لشيكاغو قبل أن يتمّ نقل الألعاب إلى سانت لويس الأميركية، في ظلّ استضافة شيكاغو لمؤتمر التجار العالمي، أما الصدمة فكانت حين قام المسؤولون بتنظيم ما سُمّي بـ"أولمبياد خاص" منفصل عن الألعاب الأولمبية، وشهد هذا الأولمبياد الخاص الكثير من المظاهر العنصرية، منها ما سُمّي بالقفص البشري، حيث تمّت التفرقة العنصرية بشكل واضح بين البيض وغيرهم، مثل إطلاق ألعاب غريبة، مثل تسلق الأشجار والرمي بالوحل، وقيل إنه قد تمّ شرح الألعاب باللغة الإنكليزية على اعتبار أن معظم الأفارقة وأصحاب البشرة الداكنة لا يفهمونها، وهو ما كان يمنح البيض التفوق عليهم.

صحيح أن هذه الأيام لم تكن ضمن الألعاب الأولمبية، لكن قيام المسؤولين أنفسهم بتنظيمها وفي المدينة نفسها، تسبّب بغضب كبير من بيير دي كوربيرتين مؤسس الحركة الأولمبية الحديثة، واصفاً ما حدث بالمهزلة. كما طالب الإفريقي- الأميركي جورج بواج بمقاطعة الألعاب الأولمبية رداً على العنصرية.

مشاهد العنصرية كانت حاضرة بشكل شبه ثابت بشكل أو بآخر في العديد من الألعاب. ومع قرب الحرب العالمية الثانية بدت الأجواء ساخنة جداً، بخاصة حين استضافت ألمانيا دورة 1936، والتي أراد فيها هتلر ترسيخ فكرة أن الألمان هم فوق الجميع، لكن هتلر ذاته اضطُر للانسحاب من ملعب برلين الأولمبي غاضباً، بعد أداء رهيب للأميركي، من أصول إفريقية، جيسي أوينز، والذي فاز بأربع ميداليات ذهبية 3 منها بالجري وواحدة بالوثب الطويل. وتقول إحدى الروايات إن أوينز كان في طريقه لخسارة ذهبية الوثب لخصمه الألماني لوز لونغ، الذي تحدث لأوينز عن خطأ يرتكبه خلال القفزة، ومنحه نصيحة ساعدته في تسجيل رقم قياسي في النهاية، وحسم الذهب لصالحه أمام هتلر الذي لم يحتمل رؤية هذا المشهد أمامه.

والملفت بالقصة، أن الأمين العام للجنة حقوق الإنسان في أميركا اعترف لاحقاً أنه كان في طريقه لمطالبة أوينز بالانسحاب وعدم المشاركة في الأولمبياد، لأن وجود رجل من أصل إفريقي في عهد النازية لم يكن أمراً مستساغاً، لكن أوينز كان البطل الذي قفز فوق كل الصعاب.

في 1968 لُعب أولمبياد المكسيك وسط ظروف عالمية متوترة، مع تصاعد كبير للقضايا العنصرية. ومرّة أخرى كان الأولمبياد هو ساحة التعبير، لكن بشكل لم يتوقعه أحد. فبعد تحطيم الأميركي تومي سميث للرقم القياسي العالمي بسباق 200 متر جري، حدث ما أذهل العالم خلال التتويج، حيث صعد رفقة صاحب المركز الثالث مواطنه جون كارلوس منصة التتويج من دون أحذية ومع جرابات سوداء فقط، تعبيراً عن الفقر الذي كان يعيشه السود. وعند عزف النشيد الأميركي أحنى كل منهما رأسه ورفع يده للأعلى بالإشارة التي يرمز لها بالقبضة السوداء، تعبيراً عن قوة السود. والملفت أن صاحب المركز الثاني كان الأسترالي بيتر نورمان الذي تعاطف مع قضية زميليه، لذا قرّر صعود المنصة وهو يضع على قميصه شعار المشروع الأولمبي لحقوق الإنسان على غرارهما.

هذه القضية أنهت حياة سميث وكارلوس الرياضية، حيث طلبت اللجنة الأولمبية الدولية استبعادهما، ولو أن البعثة الأميركية رفضت القرار في البداية، لكن لاحقاً تمّت إعادتهما لبلادهما ليتمّ تهميشهما بعد ذلك من السلطات الرياضية الأميركية، ويتعرّضان للتهديدات بالقتل. أما نورمان فبقي صديقهما المقرّب، وأطلق رفقة عمه فيلماً عام 2006 بعنوان "سالو"، يشرح قصة عام 1968، وحصد الفيلم العديد من الجوائز العالمية، وتمّ تكريم الرياضيين الثلاثة في محافل كثيرة خلال السنوات الأخيرة.

نسخة مونتريال 1976 شهدت على انسحابات 22 بلداً إفريقياً من المنافسات نتيجة خوض منتخب نيوزيلاندا للرغبي مباريات في جنوب إفريقيا التي كانت تعاني من سياسات الفصل العنصري، وفي 1980 و1984 استمرت الانسحابات، لكن كانت لأسباب سياسية، حيث انسحبت 61 دولة منها أميركا، من أولمبياد موسكو 1980، نتيجة احتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان، ليردّ السوفييت و14 من حلفائهم بانسحابهم من لوس أنجليس 1984.

وبعيداً من هذه الأحداث الكبرى، ظهرت العديد من القضايا الطفيفة، والتي لم تطف كثيراً على السطح لكن كان لها أثرها، مثل استبعاد مدرب المنتخب الألماني للدراجات باتريك موستر من الفريق الأولمبي، بعد قرار من اللجنة الأولمبية الألمانية إثر انتشار مقطع له خلال إحدى سباقات الأولمبياد الماضي "طوكيو 2020".

فحين كان الدراج الألماني يتنافس مع الجزائري عز الدين لعقاب، التقطت الكاميرات المدرب وهو يقول "تجاوز راكبي الجمال"، وهذه العبارة العنصرية كلّفته مغادرة المنتخب الألماني مباشرة رغم اعتذاره.

وحتى في أولمبياد 2024 الذي سيبدأ الخميس المقبل، ظهر فتيل المشاكل العنصرية مبكراً، فبعدما انتشرت أنباء عن مشاركة المغنية الفرنسية، من أصل مالي، آية ناكامورا في حفل الافتتاح، أثار اليمين المتطرّف في فرنسا الكثير من الفوضى، وتمّ رفع لافتة على ضفاف نهر السين كُتب عليها "مستحيل آية، هذه باريس وليست سوق باماكو!".

تبقى العنصرية واحدة من القضايا التي لطالما ظهر أثرها في الميادين الرياضية، وبما أن الرياضة هي جزء من الحياة وتعيش همومها وتقلّباتها وقضاياها، فإن العنصرية ستستعد للظهور في أي لحظة. ومن يدري فقد تشهد باريس 2024 على حدث كبير آخر!

اقرأ في النهار Premium