أحداث مميّزة شهدتها الألعاب الأولمبية في المكسيك عام 1968
شيئاً فشيئاً، أصبحت الألعاب الأولمبية "فاصلة" بين الأحداث العالمية الكبيرة، لا بل جسّدت معاني الهدنة الأولمبية القديمة، فبدت وكأنها فترة التقاط أنفاس بين جولة سياسية ومطلبية وأخرى.
فقد صادفت ألعاب الأولمبياد التاسع عشر عام 1968 في مكسيكو وسط أحداث دامية: حرب فيتنام، اجتياح الاتحاد السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا، اغتيال مارتن لوثر كينغ والسيناتور الأميركي روبرت كينيدي، تفاقم الحركات الثورية والطلابية في أنحاء العالم، الثورة الثقافية الصينية وتداعيات الحرب العربية-الإسرائيلية.
وقبل الدورة بعشرة أيام، شهدت ساحة الثقافات الثلاث وسط العاصمة المكسيكية اعتصامات واحتجاجات طلابية واضرابات وتظاهرات وصدامات مع الشرطة. وبلغت الحصيلة 267 قتيلاً و1200 جريح.
وأوكل الرئيس المكسيكي غاستوفو دياس أورداس مهمة القمع لثلاثة آلاف شرطي أعادوا الهدوء إلى العاصمة وتمكّن من إعلان افتتاح الألعاب في هذا البلد النامي، في ظلّ الخراب.
وأسهم إقامة المسابقات في أماكن على ارتفاع 2250 م عن سطح البحر حيث تقل كمية الأوكسيجين وتخف الأوزان في تدحرج الأرقام القياسية، وبعضها كان إعجازياً. فلا عجب أن يسقط 34 رقماً عالمياً و38 رقماً أولمبياً وبفوارق كبيرة ولافتة، وأن يتمكّن مثلاً سبعة من المشاركين في مسابقة الوثبة الثلاثية من كسر الرقم الأولمبي وخمسة من تحطيم الرقم العالمي.
اعتمد التوقيت الإلكتروني رسمياً في الألعاب للمرّة الأولى، وأزال استخدام أرضية الترتان على مضمار ألعاب القوى أي عائق طبيعي أمام العدائين، وأجريت فحوص للتأكد من الأنوثة.
وكان السويدي هانز غونار ليلينوال المشارك في الخماسية الحديثة أوّل المقصيين من الألعاب بداعي تعاطيه منشطاً، إذ وجدت آثار كحول في فحص بوله.
وجمعت الولايات المتحدة 45 ذهبية، أمام الاتحاد السوفياتي (29) واليابان (11).
ذهبية تونسية
ولمع الذهب في عنق العدّاء التونسي محمد القمودي بطل سباق 5 ألاف م (14:05 دقيقة)، وحصد برونزية سباق 10 ألاف م.
وتألق الأميركيون في سباقات جري المسابقات القصيرة مع جيم هاينز وتومي سميث ولي إيفانز، ومواطنهم بطل الوثب العالي ديك فوسبيري ومايسترو رمي القرص آل اورتر، "وشهب" الوثب الطويل بوب بيمون، وجيش العدائين الكينيين بقيادة "الضابط" كينو الذي حصد بداية ذهب 1500 م.
وإذا كان العناء في جري المسافات الطويلة بسبب الارتفاع عن سطح البحر شكل عائقا أمام كثيرين، فان خفة الأوزان سمحت بإنجازات وأرقام في الرمي والوثب. فقد توّج أورتر أولمبياده الرابع بذهبية رابعة في رمي القرص، وحسّن رقمه نحو أربعة أمتار مسجلاً 64.78 م.
وها هو الطالب الأميركي الممشوق القوام فوسبيري يقلب موازين الوثب العالي ومعادلاته المتعارف عليها وتقنياته المعتمدة، فقد تخطّى العارضة مرتقياً على ظهره ومسجّلاً رقماً جديداً مقداره2.24 م، مسطّرا نقلة جديدة في التطوّر الرياضي.
القبضة السوداء
و"بقبضة سوداء" وعزيمة لا تلين، تفوّق الأميركي تومي سميث في سباق 200 م، وكانت الحصيلة رقماً عالمياً جديداً دون 20 ثانية.
وتقدّم سميث على الأسترالي بيتر نورمان (20.06ث)، والأميركي جون كارلوس (20.10 ث). ولحظة التتويج شاء سميث وكارلوس أن يظهرا تضامنهما مع القوّة السوداء موجّهين رسالة ضد التمييز العنصري في العالم وخصوصاً في الولايات المتحدة، فرفعا قبضتيهما و"المغلفتين" بقفازين أسودين. كان الردّ طردها من القرية الأولمبية، وحظيا باستقبال "غير مناسب" في لوس أنجلس، وأمضى كارلوس بعدها ستة أعوام يعاني البطالة.
ويعترف سميث متذكراّ الحادثة أنّ خمسة عدائين سود كانوا عند خط الانطلاق في السباق النهائي من اصل سبعة متأهلين. وكان نهائي 100 م أسود بكامله "أردت منذ البداية أن أكون سفيراً للسود من خلال الانتصارات وليس عبر تحقيق الأرقام القياسية. ووجدت في الانتصارات باباً يسهل الاعتراف الاجتماعي بهذه الطبقة ونيل حقوقها".
وتابع: "رفضت دائماً مقولة إنه يتوجب على السود أن ينفذوا ما يطلب منهم من دون تردّد، أو تفكير. برهنا في مكسيكو أننا نملك الدماغ، نقرّر ونفكر ونأخذ المبادرة. أنا فخور بهذه الألعاب، إذ أظهرت من خلالها إنني بادرت من دون أن يطلب أحد مني ذلك".
"الحمى السوداء" أصابت أيضاً الفائزين الأميركيين الثلاثة في سباق 400 م لي إيفانز (43.87 ث) ولورانس جيمس (43.97 ث) وفريمان (44.41 ث)، فاعتلوا منصّة التتويج يعتمرون قبعات سود ورفعوا أيديهم للتحية بقبضة مشدودة.
بيمون يحلق
وكان استاد أستيكا في مكسيكو شاهداً على محطة أسطورية في الوثب الطويل بطلها الأميركي بوب بيمون. والحكام لم يحسبوا حسابها ولم تكن عندهم أساساً أجهزة قياس لتحديد مسافتها.
ظنّ الجميع أنّ الفائز بالمركز الأوّل لن تتعدّى وثبته 8.50 م أو 8.60 م على أبعد تقدير، لكنّ بيمون تخطى الخيال، فالرقم الأولمبي مقداره 8.07 م، والرقم العالمي 8.35 م. ورقم بيمون 8.90 م وهو نفسه لم يصدّق ذلك! يومها قيل إنه على الجميع الانتظار حتى العام 2000 ربما لكسر الرقم الفلكي الجديد، لكنّ الأميركي مايك باول فاجأ الجميع ووثب 8.91 م عام 1991 في بطولة العالم لألعاب القوى في طوكيو.
وعاد الفرنسيون لفرض ومضات من إيقاعهم في بعض المسابقات، بعد دورتين عجاف، وكان البارز في صفوفهم الدراجون دانيال مورلون وبيار ترنتان ودانيال روبييار، فحصدوا أربع ذهبيات من أصل خمس في سباقات المضمار، إذ أحرز مورلون ذهبية السرعة وترنتان ذهبية الكيلومتر ضد الساعة، ورويبيار ذهبية المطاردة الفردية.
وفي السباحة، أعلن الأسترالي مايك ويندن (19 عاماً) أمام الصحافيين قبيل الانطلاق في سباق 100 م حرّة أنه ضامن الفوز، وحقق وعده برقم عالمي جديد 52.2 ثانية (الرقم السابق 52.6 ث).
وانتقل الصراع "الوطني" بين السوفيات والتشيكوسلوفاكيين من "ربيع براغ" إلى قاعة الجمباز، حيث أحرزت السوفياتية ناتاليا كوتشنسكايا الميدالية الذهبية على العارضة أمام التشيكوسلوفاكية فيرا تشاسلافاسكا بطلة المسابقة العامة في دورة طوكيو، والبالغ رصيدها خمس ذهبيات وأربع فضيات إضافة إلى ستة ألقاب عالمية.
وأضافت تشاسلافاسكا التي أصبحت لاحقاً رئيسة للجنة الأولمبية في بلادها، ذهبيتين أخريين إلى رصيدها من خلال احتفاظها بلقب المسابقة العامة وفوزها بمسابقة العارضتين غير المتوازيتين، وبذلك احتكرت كل شيء قبل أن تزين انتصارها بمحبس ذهبي أضاف بريقاً إلى ميدالياتها، إذ تزوّجت عداء المسافات المتوسطة جوزف أودلوزيل وأعلنت "سيكون أولادنا أبطالاً أولمبيين عام 1992".
في طوكيو، وضعت تشاسلافاسكا حداً لسيطرة السوفياتية الأسطورة لاريسا لاتينينا التي استمرّت 12 عاماً.
وفي مكسيكو، خطّطت للاعتزال وهي في القمة "وهذا ما تحقق، والجمهور اعتبر أنني أستحق ذهبية العارضة، وجاءت فرحتي مزدوجة بزواجي من جوزف".