هاني سكر
يتوقع كثيرون أنّ استضافة حدث كبير مثل دورة الألعاب الأولمبية، سيتسبّب بعوائد اقتصادية عالية، نتيجة تعزيز السياحة الرياضية خلال فترة المنافسات واهتمام المليارات بمتابعة البطولة على الشاشات حول العالم، عدا عن الأعداد الهائلة للحضور الذين يتوافدون إلى مختلف المنشآت المستضيفة للبطولة. لكن الواقع يقول إن عملية تحقيق أرباح من استضافة الأولمبياد يبدو أمراً صعباً. فهناك شبه إجماع من المحلّلين الاقتصاديين على أن تكاليف الاستضافة تتجاوز الأرباح بشكل واضح، وهو ما تسبّب بتقليل عدد المدن الراغبة بالاستضافة في السنوات الأخيرة، رغم وجود بعض العوامل الجانبية غير المحسوبة التي قد تمثل جوانب إضافية لزيادة الدخل.
قبل 3 أشهر من بدء الأولمبياد، الذي سينطلق رسمياً يوم الخميس، قالت اللجنة المنظمة إن تكاليف الاستضافة وصلت إلى حدّ 9 مليارات يورو، مشيرة إلى أن بعض التكاليف الإضافية ستُضاف للقائمة خلال استضافة الحدث، بالتالي من المتوقع أن تتجاوز تكلفة الاستضافة حدّ 10 مليارات، ما يمثل زيادة كبيرة عن الميزانية الأولية، وهذا الأمر ليس بجديد، حيث تقول الدراسات أيضاً، إن تكاليف الألعاب الأولمبية تصل عادة إلى حوالى 172% من التقديرات الأولية في معظم الدورات.
ورغم وجود عوامل استثنائية تسببت بارتفاع تكاليف استضافة أولمبياد باريس، مثل أزمة انتشار فيروس كورونا قبل سنوات وثم ارتفاع سعر المحروقات في فرنسا، لكن يمثل أولمبياد باريس حتى الآن واحداً من أقل الدورات تكلفة في العصر الحديث!
التجارب الأولمبية الأخيرة كانت مؤذية من حيث الخسائر المادية، سواء في الألعاب الصيفية أو الشتوية، حيث حقق أولمبياد بكين عائدات بلغت 3.6 مليارات دولار، في الوقت الذي قدّر فيه المحلّلون التكاليف الفعلية بـ40 مليار دولار، أي ما يعادل 5 أضعاف الميزانية الأولية (8 مليارات)، ولقي أولمبياد طوكيو أيضاً مصيره بتحقيق خسارات كبيرة بعدما سجّل دخلاً بقيمة 5.8 مليارات دولار مقابل صرف أكثر من 13 مليار دولار.
وفي الوقت الذي يبرّر فيه البعض خسارة أولمبياد طوكيو الاقتصادية بسبب انتشار فيروس كورونا، فإن الحال لم يكن أفضل في باقي الدورات، حيث احتاج منظمو أولمبياد ريو لطلب تدخّل إسعافي من الحكومة، بعد عدم تمكنهم من دفع رواتب الموظفين، وطلبوا مبلغ 900 مليون دولار للإيفاء بالالتزامات، ووصلت الخسارات لحد ملياري دولار، في الوقت الذي بلغت فيه مجمل تكاليف الاستضافة حوالى 23.6 مليار دولار، أما أكبر رقم مسجّل ومعلن عن الاستضافة فهو لأولمبياد سوتشي (روسيا) الشتوي 2014 والذي كلّف 28.9 مليار دولار، في حين كلّف أولمبياد لندن 2012 حوالى 15 مليار يورو، وهي تكلفة مقاربة لما كلّفه أولمبياد أثينا 2004.
وحتى الألعاب التي كانت تكاليفها أقل لم تنج من فخ الخسائر، حيث احتاج منظّمو ألعاب فانكوفر 1976 حوالى 30 عاماً لتسديد ديونهم بالكامل، في الوقت الذي فشلت فيه عملية بناء منشآت مستدامة في أثينا 2004، حيث تمّ إهمال العديد من المنشآت والمرافق التي بُنيت عند استضافة الألعاب.
في الواقع، لا تمثل عملية الخوف من التكاليف الباهظة للاستضافة أمراً جديداً، ففي العام 1984 كانت لوس أنجليس الأميركية هي المدينة الوحيدة التي رغبت بالاستضافة، في ظل عزوف باقي الدول عن تحمّل التكاليف الباهظة. ويُقال إن المنظمين حينها فرضوا شروطهم على اللجنة الأولمبية الدولية، معتبرين أن هذه الاستضافة ستنقذ الألعاب من التوقف. وبحسب "غلوبال فاينانس" كانت تلك المرّة الوحيدة التي تحقق فيها اللجنة الأولمبية في أي بلد أرباحاً من استضافة الأولمبياد، علماً أن اللجنة الأولمبية الدولية تأخذ حصة واضحة من الأرباح، حيث تحصل على حوالى نصف أرباح حقوق البث التلفزيوني والتسويق، والتي تمثل مصادر الدخل الأهم تقريباً خلال الاستضافة.
في السنوات الأخيرة أدركت اللجنة الأولمبية الدولية أن الدول بدأت تعاني فعلاً عند التخطيط للاستضافة، لذا بدأت بوضع معايير تقلّل من المصاريف وتطلب من الدول الاعتماد على الملاعب الموجودة سلفاً، ولا تمانع تقسيم الاستضافة على مساحة أكبر والتنقل بين مدن عدة لتقليل التكاليف الإنشائية. لذا نرى مدناً كبيرة بحجم باريس ولوس أنجليس هي من ذهبت للاستضافة، كونها مؤهلة سلفاً بالكثير من المتطلبات اللوجستية اللازمة لاستقبال عدد هائل من السياح. لكن رغم ذلك ما زال تحقيق ربح في باريس موضع شك، رغم أن ما سيُصرف على هذه الدورة سيكون أقل من معظم النسخ الأخيرة.
من أصل 9 مليارات تمّ صرفها حتى الآن في باريس، فإن ميزانية اللجنة المنظمة كانت 4.4 مليارات يورو فقط، مدعومة بمبيعات التذاكر والجهات الراعية والمبلغ الذي قدّمته اللجنة الأولمبية الدولية، في الوقت الذي أنفقت فيه شركة "سوليديو" الحكومية رقماً مماثلاً لبناء القرية الأولمبية وبعض التجهيزات الخدمية، وتعتمد حصر القيمة النهائية على ما سيتمّ إنفاقه كمكافآت للعاملين اللوجستيين من سائقي القطارات وعناصر الشرطة ومقدّمي خدمات الطوارئ وتكاليف إضافية خلال سير الألعاب، علماً أن الحكومة كانت قد خصصت مبلغ 2.4 مليار يورو للأولمبياد، معظمها لأعمال البناء، لكن رئيس ديوان المحاسبة التابع للحكومة توقّع أن تصل التكلفة النهائية إلى 5 مليارات.
خطة باريس لتفادي الخسارات تتعلق بشكل أساسي بالاستفادة من استدامة المنشآت التي تمّ بناؤها، حيث سيتمّ تحويل القرية الأولمبية لمجمع سكني ضخم بعد نهاية الألعاب. وبحسب مركز القانون واقتصاد الرياضة "سي دي إي إس" الذي يراقب تكاليف الألعاب لصالح اللجنة الأولمبية الدولية ومنظمي دورة باريس 2024، يمكن للألعاب أن تحقق أرباحاً تتراوح بين 6.7 و11.1 مليار يورو، لكن هذا الرقم يتوزع على مدة زمنية طويلة تمتد حتى عام 2034، بالتالي يبدو ضئيلاً احتمال الربح المباشر الآني، لكن الأمل هو بالاستفادة من الاستدامة.
يرى محافظ بنك فرنسا، فرنسوا فيلروا دي غابو، أن استضافة الألعاب يحمل تأثيراً نفسياً أكبر من الاقتصادي، حيث يساعد في تحسين صورة فرنسا حول العالم، ما قد يجذب استثمارات جيدة، في الوقت الذي تشير التوقعات فيه لإمكانية أن تسجّل المؤسسات السياحية مدخولاً يصل إلى 3.6 مليارات يورو من 15 مليون زائر متوقع حضورهم الألعاب، منهم مليونا زائر من خارج البلاد.
تحقق استضافة الأولمبياد بعض الأرباح الإضافية التي لا تنعكس بشكل مباشر على الحكومة ولا على اللجنة المنظمة، ولو أنها قد تمنح أثراً جانبياً إضافياً، والأمر لا يتعلق هنا فقط بالمؤسسات المعنية بالقطاعين السياحي والرياضي، بل يصل حتى للبورصة وشركات النفط. ففي دراسة لمجموعة "استراليا ونيوزيلندا" المصرفية، تبين أن أسواق الأسهم في الدول المستضيفة للأولمبياد تشهد ارتفاعاً كبيراً خلال فترة المنافسات، حيث ارتفع سهم "إم إس سي آي برازيل" بنسبة 8% خلال الأسبوع الأول فقط من أولمبياد ريو 2016، مقابل ارتفاع سهم "إيبوفيسبا برازيل" بنسبة 35% خلال الأشهر الـ8 الأولى من العام، والأمر نفسه حدث في لندن 2012 حين ارتفع سهم "إف تي إس إي 100" بنسبة 17% خلال 12 شهراً بعد الدورة، فيما سجّل مؤشر أثينا زيادة قدرها 45% خلال عام، بعد استضافة أولمبياد 2014 مقابل ارتفاع مؤشر إيبكس في برشلونة بنسبة 27% بعد استضافة أولمبياد 1992 وارتفاع مؤشر داو جونز بنسبة 45% خلال عام بعد أولمبياد أتلانتا، ما يعكس وجود ارتباط بين الألعاب وسوق الأسهم.
الخطوة الأولى حالياً هي ألّا يسجّل أولمبياد باريس خسائر فادحة كما حدث في بكين وطوكيو وريو وحتى لندن، ثم أن تنجح الاستدامة بردّ ما تمّ دفعه في السابق، مع تسجيل هامش ربح مرتبط بالمكاسب الجانبية، كي تستعيد الدول ثقتها وتعيد المحاولة باستضافة الألعاب الأولمبية التي يبدو أنها ستبقى حكراً على المدن الكبيرة والمؤهلة سلفاً في المدى القريب.