نانسي فضول
في قلب العاصمة الفرنسية باريس، يتدفق نهر السين كعقد من الياقوت يلتفّ حول رقبة المدينة، يجمع بين ضفافه قصصاً من العصور الغابرة وأحلام المستقبل. يمتد النهر بطول 777 كيلومتراً، ليكون لا مجرد مجرى مائي، بل روح تنبض بالحياة في كل ركن من أركان المدينة. على ضفافه، تتراقص انعكاسات أضواء برج إيفل، وتُطل كاتدرائية نوتردام بأبهتها، حيث يُعد نهر السين شاهداً على أحداث تاريخية لا تُحصى، فكان مصدر إلهام للفنانين والكتّاب، من لوحات الانطباعيين التي التقطت سحر الضوء المتغير على مياهه، إلى السرديات الأدبية التي مجّدت جماله وأسراره.
كان لنهر السين دور حيوي في تاريخ باريس كمحور تجاري، حيث كانت مياهه تنقل البضائع والأفكار بين أرجاء أوروبا، وحتى اليوم، تدعم الموانئ على طوله الأنشطة التجارية والصناعية، ما يجعله شرياناً اقتصادياً نابضاً بالحياة. يضجّ النهر بالحياة الاجتماعية والثقافية، حيث يستضيف فعاليات ومهرجانات متنوّعة تجمع بين السكان والزوار، من مهرجان السين الموسيقي إلى الفعاليات الرياضية، ويبقى الحدث الأبرز لهذا العام الألعاب الأولمبية 2024 التي تستضيفها مدينة باريس لتزيد من تألقها ويسطع نجمها أكثر في العالم.
لن يكون نهر السين مجرد خلفية لهذه الأحداث، بل سيكون محوراً رئيسياً في منافسات الترياتلون التي ستجري في 30 و31 من شهر تموز (يوليو) 2024، حيث يبدأ السباق بالسباحة في مياهه الباردة قبل أن ينطلق الرياضيون على الدراجات ويختموا بالجري في شوارع باريس المزدحمة. هذه الفعالية ستجسد الروح الأولمبية بأبهى صورها، حيث تتداخل الرياضة مع حياة المدينة اليومية، ومن المتوقع أن تكون دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 2024 حدثاً استثنائياً يعكس جمال المدينة وتاريخها، مع التركيز على نهر السين كموقع رئيسي لبعض الفعاليات. وهذا الاستخدام المبتكر لنهر السين يُعدّ علامة في تاريخ الألعاب الأولمبية ويعزز مكانة النهر كرمز ثقافي وجغرافي بارز في باريس.
وفي قلب باريس، حيث يتدفق نهر السين بهدوء، يشهد الجميع "ملحمة" بيئية قد تصلح أن تكون مادة لفيلم كوميدي. فبعد سنوات من تحوّل أجزاء من النهر إلى مستنقع للنفايات، تُبذل جهود حثيثة لتنظيفه واستعادة بريقه. ولكن، كما يقول المثل الفرنسي، "بين الحلم والحقيقة، هناك الكثير من العمل والنكات".
في يوم من الأيام، كان نهر السين ينبض بالحياة والجمال، لكن الزمن لم يكن رحيماً بهذا النهر، حيث تحوّل تدريجاً إلى مستودع للنفايات، يُلقى فيه كل شيء من القوارير البلاستيكية إلى الدراجات الصدئة ومياه الصرف الصحي بلا حياء ولا خجل، فأصبح النهر يتنفّس بصعوبة، ويعاني من رائحة كريهة تُزعج حتى الزوّار الأكثر ولاءً.
بدأت بلدية باريس جهود التنظيف كأنها مسرحية هزلية، حيث تضافرت جهود العمدة وفريقها في سباق مع الزمن. من تنظيم حملات التوعية إلى تجنيد جيش من المتطوعين، كان المشهد يبدو كأنه استعراض مسرحي أكثر منه عمليةً جادة. ونُظّم العديد من الفعاليات الرمزية، منها الغطس الاحتفالي للعمدة آن هيدالغو، التي حاولت بثقة إقناع الجمهور بأن مياه النهر باتت صالحة للسباحة.
وقامت وزيرة الرياضة الفرنسية إميلي أوديا كاستيرا بالسباحة في نهر السين، قبل أقل من أسبوعين من بدء دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024.
لم تخلُ محاولات تنظيف النهر من الأخطاء الطريفة والمفارقات المضحكة. فبينما كان فريق التنظيف ينهمك في جمع النفايات، كانت الأمطار تجرف المزيد منها إلى النهر مجدداً. وفي إحدى المرات، اكتشف الفريق قارباً غارقاً مليئاً بالأثاث المهجور، ما أثار موجة من الضحك بين السكّان الذين تساءلوا عن كيفية وصول هذه الكنوز إلى النهر.
وبالرغم من كل النكات والانتقادات، تُواصل بلدية باريس جهودها لتطهير النهر وتحويله إلى مرفق بيئي صالح للعيش والسباحة، وخُصّصت ميزانيات ضخمة لتحفيز مشروعات تنقية المياه، لكن النتائج تظلّ متواضعة مقارنة بالطموحات الكبيرة. وحتى الآن، لا يزال نهر السين يكافح من أجل استعادة مجده القديم، حيث باتت حملات التنظيف أقرب إلى طقوس رمزية منها إلى عمليات جذرية.
ومع كل إعلان جديد عن ميزانية إضافية لتنظيف المياه، تتصاعد التساؤلات والانتقادات الساخرة. هل سيصبح نهر السين Spa للنفايات، حيث تستجم القوارير البلاستيكية والدراجات الصدئة، أم حلماً بيئياً لن يتحقق إلا في القصص الخيالية؟