سهّل الذكاء الاصطناعي العديد من المهام اليومية أضعافاً مضاعفة، وإن لم تأتِ هذه الخدمات من دون تكلفة كبيرة، إذ تمرّ بمسار طويل من الإنتاج، يبدأ باستخراج المواد الأولية، ولا ينتهي عند الوصول إلى إجراء الحسابات المعقدة؛ وتتوسط ذلك سلسلة توريد واسعة النطاق.
أرقام
يمكن أخذ بعض الأمثلة التي قدّمها موقع "فوكس" كتقدير سريع للتكلفة. يتطلب تدريب نموذج لغة كبير مثل "جي بي تي 3" مقداراً من الطاقة الكهربائية يبلغ 1300 ميغاوات في الساعة. تساوي هذه الطاقة ما يستهلكه 130 منزلاً أميركياً في السنة.
ويستهلك بحث منفرد على "غوغل" 0.3 واط في الساعة من الطاقة الكهربائية، بينما يستهلك بحث على "تشات جي بي تي" 2.9 واط في الساعة. قد يبدو هذا الرقم معقولاً بشكل نسبي. لكن القصة لا تنتهي هنا.
بحسب التقرير نفسه، إذا تم دمج "تشات جي بي تي" بـ 9 مليارات بحث يومي، فسيزداد الطلب على الكهرباء بـ 10 تيراواط (مليون مليون واط) سنوياً، أي ما يستهلكه نحو 1.5 مليون نسمة في الاتحاد الأوروبي.
في هذا السياق، يوضح الأستاذ نهاد إسماعيل، الخبير في اقتصادات الطاقة، بأن استهلاك الطاقة الكهربائية الاستثنائي الذي يتسبب به الذكاء الاصطناعي يشكل مصدر قلق كبير، بالنظر إلى أن النمو الدراماتيكي للذكاء الاصطناعي وضع عبئاً ثقيلاً على شبكات الكهرباء حول العالم، ويؤدي إلى ارتفاع المبعوثات الغازية في الأجواء، مما يعرقل التقدم نحو طاقة خالية من الكربون. إسماعيل يوضح أيضاً بأن "مايكروسوفت"، التي استثمرت في صناعة "تشات جي بي تي" من خلال دعمها لشركة الذكاء الاصطناعي المفتوح "أوبن إيه آي"، اعترفت بأن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ارتفعت بنسبة 30% منذ 2020 بسبب الاستخدام المتزايد لهذه التقنية.
مرحلتان أساسيتان
مدير هندسة البرمجيات في شركة "ميتا" غوناي أوزكان أوضح في موقع "ميديوم" بأن الذكاء الاصطناعي يتكوّن من خطوتين: تدريب النماذج ثم الاستدلال. يتضمن التدريب ضبط ملايين إلى مليارات المعلمات (parameters) لنموذج التعلم الآلي، عبر استخدام مجموعات بيانات تدريبية كبيرة. أما الاستدلال فيتعلّق باستخدام معلمات النموذج المدرب لحساب الناتج، بناء على مُدخل معيّن. وكلما ازداد عدد المعلمات، أصبح نموذج الذكاء الاصطناعي أكثر تطوراً. وكل عام يتم تدريب نماذج أكثر تعقيداً، مع عدد أكبر من المعلمات، مما يؤدي إلى استهلاك أكبر للطاقة.
بمعنى أكثر تبسيطاً، يمكن تشبيه هذا المسار بعمليتي "الاستيعاب" ثم "التفكير" المطلوب لتقديم الإجابة، بناء على التدريب الأساسي. وكلما كان نموذج الذكاء الاصطناعي أفضل ازداد الطلب عليه.
مزيد من التكاليف
بحسب تقديرٍ لمجلة "إيكونوميست" الشهر الماضي، يتطلّب تدريب أكبر نماذج اللغة في الوقت الحالي نحو 100 مليون دولار، بينما سيتطلّب تدريب الجيل التالي نحو 1 مليار دولار، وتدريب الجيل الذي سيليه نحو 10 مليارات دولار. والطلب من نموذج معين بأن يجيب على استفسارٍ ما يفرض تكلفة حسابية يمكن أن تتراوح ما بين 2400 دولار و223 ألف دولار لتلخيص التقارير المالية لنحو 58 ألف شركة عامة في العالم.
وعن الحلول الممكنة للتغلب على الاستهلاك الضخم للطاقة، يطرح نهاد إسماعيل بعض الخيارات مثل استخدام تقنيات حديثة لتقليل استهلاك الطاقة وتبريد الأجهزة والآلات، والاستفادة من التكنولوجيا النووية وتكنولوجيا التخزين مثل الهيدروجين.
بالإضافة إلى ذلك، يشير إلى أهمية التغلّب على عوائق دمج الطاقة المتجدّدة في شبكات الكهرباء الحالية، ويقترح تقنيات مثل رصد التقلبات الجوية لتحسين كفاءة استخدام الطاقة.
في الوقت نفسه، لا يتوقف استهلاك الطاقة عند تقديم النتيجة؛ فعمليات التبريد جزء أساسي من كامل المسار. في مقابلة مع مجلة "ساينتيفيك أميركان" السنة الماضية، قال عالم البيانات في البنك المركزي الهولندي والخبير في تكلفة التكنولوجيا الناشئة أليكس دي فرايز إن مراكز البيانات العالمية المسؤولة أساساً عن 1 في المئة من الاستهلاك العالمي للطاقة ستضيف، كمعدل عام، 50 في المئة من استهلاك الطاقة، فقط للإبقاء على تبريد الآلات. أما عن إمكانية تعويض استهلاك الطاقة عبر زيادة الكفاءة والفاعلية، فاعتبر دي فرايز أن هذا تقييم "متفائل جداً"، إذ كل خدمة تزيد كفاءتها بسبب التكنولوجيا ستحفّز المزيد من الطلب عليها.
في المقابل، يقترح إسماعيل حلاً ممكناً، وقد يكمن في تقليل البيانات غير اللازمة التي تُخزّن من دون استخدام، والتركيز على النماذج الصغيرة التي تستهلك طاقة أقلّ. كذلك، يقترح المنظمون في البرلمان الأوروبي وضع أسس لاحتياجات الأنظمة وتصميمها بحيث يمكن رصد استهلاك الطاقة المستخدمة.
تهديد
بعد شهرين على إطلاق شركة "أوبن إيه آي" روبوت الدردشة "تشات جي بي تي"، بلغ عدد مستخدميه 100 مليون شخص فيما بدأت شركات التكنولوجيا تتنافس لتقديم "ذكاء اصطناعي" أكثر توليدية أمام الجمهور. لكن القدرة على زيادة العرض من هذه النماذج بدأت تصطدم بعقبات؛ والسبب انفلاش تكلفة بناء النماذج الجديدة كما تكلفة استخدامها، مما يجعل الاختراقات أكثر صعوبة بحسب "إيكونوميست".
إسماعيل يختتم بأن التقدم التكنولوجي سيساهم في حل مشكلة الطلب المفرط على الطاقة باستخدام أدوات متقدمة مثل شرائح ثلاثية الأبعاد (3D)، ورقائق تبريد متطورة، لتحسين الأداء وتقليل استهلاك الطاقة بمقدار 25 مرة. ولكنه يؤكد أن التغلب على جميع هذه التحديات سيتطلب وقتاً وتكلفة اقتصادية كبيرة.